كما تدين تدان
قضيت صلاة الجمعة، وانتشر الناس في الأرض يبتغون من فضل الله، ولا تزال كلمات الإمام تجوب خواطر المصلين، فالخطبة كانت مؤثرة اقتلعت قلوب العاقين لآبائهم وأمهاتهم، من هول المصير في الدنيا والآخرة، وبشرت البارين بهما بحسن الجزاء والثواب.
شيخ كبير ربما جاوز الثمانين من عمره بقليل، لا يزال واقفاً بجوار سور المسجد العتيق يلتفت يمينا ويسارا وكأنه ينتظر أحدا ينتشله من هذا الوهج الحارق الذي تنثره شمس الخليج في شهر أغسطس، فجعلته يتصبب عرقاً، وجعلت ثيابه البيضاء تبتل وتكشف عن تقاسيم جسده النحيف وظهره الآخذ في الانحناء، ولما طال به الانتظار آوى إلي مدخل إحدى البنايات القريبة من المسجد ليتلقى بعضا من نسائم المكيف التي تنبعث من مدخل البناية وكأنها آتية من القطب الشمالي.
في السوق العتيق كانت الشمس لا تزال ترسل أشعتها فوق البنفسجية على الأرض، وكأنها تصب جام غضبها على ساكنيها، وكأنها ضاقت ذرعاً بظلم البشر، ورغم ذلك كان السوق لا يزال يعج بالمارة والمصلين الذين آثروا التسوق في هذا الوقت ربما ليس لأجل التسوق وإنما للاحتماء بخيام السوق من أشعة الشمس القاسية.
وقبل أن يلتقط الشيخ أنفاسه انقض عليه من الخلف شاب في العقد الثالث من عمره، وأمسكه من تلابيبه، وظل يتحدث بشفاهه الغليظة في وجه الشيخ: ألم أقل لك لا تترك مكانك؟
وقبل أن يجيبه الشيخ سحبه الفتى بلا شفقة أو رحمة وجرّه إلى السيارة بعنف شديد وسط ذهول الناس وتوسلات الشيخ، ولما وصلا إلى السيارة رفض الشيخ الصعود معترضا على الأسلوب المذل الذي يعامله به الشاب، فبادره الشاب بالشتائم البذيئة.
ولما اشتد إصرار الشيخ على عدم صعود السيارة، رفع الشاب يده إلى رأسه وأمسك بعقاله الأسود الغليظ، وبدأ يضرب الشيخ الكبير على ظهره ورأسه ورجليه عدة ضربات متتالية موجعة، لم تشفع الدموع التي اختلطت مع قطرات العرق المتصببة من صلعة الشيخ، فسقط على الأرض مغشيا عليه.
مرت بضع دقائق.. وأمام هذا المشهد الفظيع، انقض المارة لتخليص الرجل من يد هذا الشاب المتسلط، وانهالوا عليه بالشتائم والسباب، وبينما قام أحد الشباب بإحكام قبضته على العقال راعه ما حدث مع الشيخ الكبير فبادر الشاب المعتدي بعدة لكمات قاسية على وجهه وبطنه.
وسط شماتة الناس وتشجيعهم لهذا الشاب الشهم، وتحمس بقية الناس وراحوا يأخذون نصيبهم في ضرب الشاب المتسلط، وفجأة صاح الشيخ الكبير وهو يمسح التراب عن فمه وقد اختلط العرق بالرمال والأتربة فتحولت ثيابه البيضاء إلى سوداء متسخة وقال بصوت منهك: اتركوه..اتركوه إنه ابني.
إنه مظلوم لا تضربوه أرجوكم لا تضربوه، وغلّظ الأيمان بأن ضاربه هو ابنه من لحمه ودمه! فصعق الناس مما سمعوه، وأراد الشيخ أن يمسح الدهشة التي علت الوجوه فقال: نعم انه ابني، أراد بفعلته هذي وبدون أن يدري أن يسدد الدّين الذي أحمله في عنقي منذ أربعين سنة، ففي هذه الساعة وفي المكان نفسه وبنفس الطريقة والأسلوب فعلت ما رأيتموه مع والدي وهاهو (الدّين) ينقضي في الدنيا ولا أعلم كيف سينقضي في الآخرة.